بقلم: د. مروة بنت سلمان آل صلاح
مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي
في زمن تتسارع فيه التحولات التقنية وتتشكل فيه الاقتصادات على وقع البيانات أكثر من الموارد، يبرز الشمول المالي كأحد أعمدة السيادة الاقتصادية الحديثة. لم يعد الوصول إلى الخدمات المالية معيارا للرفاه فحسب، بل أصبح مقياسا لعدالة الأنظمة وقدرتها على احتواء الإنسان وتمكينه. وفي قلب هذا التحول، ينهض الذكاء الاصطناعي كأداة استراتيجية تعيد صياغة مفهوم التنمية، وتحول الاقتصاد من منظومة رقمية باردة إلى منظومة إنسانية ذكية تنصت وتفهم وتتكيف.
في العالم المعاصر، لا يُقاس التقدم بما تمتلكه الدولة من بنوك أو مؤسسات مالية، بل بقدرتها على جعل هذه المؤسسات تفهم نبض المجتمع وتخدمه بكفاءة وعدل. وهنا تبرز مسؤولية الحكومات الوطنية في توجيه التحول المالي الرقمي نحو هدف يتجاوز الكفاءة التشغيلية إلى العدالة الشاملة. فالشمول المالي ليس عملية فتح حسابات مصرفية جديدة، بل عملية بناء ثقة اقتصادية بين المواطن والدولة، بين القيمة والعمل، وبين الفرص والطموح. وعندما تتكامل هذه المعادلة مع الذكاء الاصطناعي، يتحول النظام المالي إلى كيان حي قادر على اتخاذ قرارات تراعي اختلاف البيئات وتستوعب التنوع المجتمعي دون تمييز أو إقصاء.
لقد أظهرت التجارب أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي داخل القطاعات المالية يمكن أن يرفع كفاءة الشمول الاقتصادي بنسبة مضاعفة دون الحاجة لتوسع بنيوي ضخم، وذلك بفضل دقة التحليل والتنبؤ. غير أن ما يميز هذه التقنية ليس قدرتها الحسابية، بل قدرتها على “الفهم”. فهي تتيح للمؤسسات المالية قراءة سلوك الأفراد، لا من زاوية المخاطر، بل من زاوية الإمكانات. فالمزارع الصغير أو رائدة الأعمال الشابة أو العامل في الاقتصاد غير الرسمي يصبح لديهم، عبر الذكاء الاصطناعي، هوية مالية تبنى على سلوكهم الإنتاجي الفعلي لا على تاريخهم الائتماني التقليدي.
هذا التحول المعرفي في إدارة المال ينعكس مباشرة على العدالة الاجتماعية. فحين تصاغ السياسات المالية على أساس بيانات واقعية، يصبح من الممكن توجيه الدعم والاستثمار بدقة نحو الفئات المنتجة بدل تلك التي تصنف كضعيفة. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي كقوة تصحيحية تمكن من تحويل الاقتصاد إلى أداة تمكين اجتماعي لا إلى أداة تراكم مالي. وتلك هي الرؤية التي يجب أن تتبناها الدول الطامحة إلى بناء اقتصاد مستدام ومتوازن، حيث تلتقي الكفاءة بالمسؤولية، والربح بالوعي، والنمو بالعدالة.
على المستوى الوطني، لا يمكن فصل الشمول المالي الذكي عن الأمن الاقتصادي. فكل فئة مهمشة ماليا تمثل فراغا في منظومة الإنتاج الوطني، وكل فجوة ثقة بين المواطن والمؤسسة هي نقطة ضعف في استقرار السوق. من هنا، تصبح مسؤولية الدولة في بناء شمول مالي قائم على الذكاء الاصطناعي مسؤولية سيادية تمس أمنها الاقتصادي والاجتماعي. فالتقنية ليست ترفا تنمويا، بل درعا استراتيجيا يحمي الموارد ويعيد توجيهها بعدالة.
إن الدولة التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي ضمن سياساتها المالية لا تراهن على التقنية بقدر ما تراهن على إنسانها. فهي تبني نموذجا اقتصاديا يوازن بين الطموح والإنصاف، بين النمو والضمير. فالمواطنة الاقتصادية لا تبنى عبر المنح والقروض فقط، بل عبر تمكين المواطن من أن يكون فاعلا ماليا واعيا، قادرا على اتخاذ قرارات مالية مسؤولة بفضل بيئة رقمية شفافة وواضحة.
وما يجعل هذه الرؤية وطنية بامتياز، هو أن الشمول المالي في مفهومه الحديث لم يعد مجرد أداة لتقليص الفقر، بل أصبح أحد مفاتيح الاستقرار الوطني. فحين يشعر المواطن أن الدولة تمنحه مساحة عادلة داخل المنظومة المالية، وأن التقنية تسخر لخدمته لا لمراقبته، تتعمق الثقة المؤسسية، وتبنى علاقة جديدة بين الفرد ومؤسسات بلده قائمة على الاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة.
لكن الوصول إلى هذا المستوى من النضج لا يتحقق عبر الأنظمة التقنية وحدها، بل عبر الوعي المؤسسي والإرادة السياسية. فالحوكمة الأخلاقية للذكاء الاصطناعي تمثل حجر الأساس لأي مشروع وطني في الشمول المالي الذكي. لا بد من تشريعات تضمن نزاهة الخوارزميات، وشفافية إدارة البيانات، واحترام الخصوصية الإنسانية قبل أي اعتبارات تجارية. حين تبنى المنظومات على هذه القيم، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تحليل إلى أداة عدالة.
وفي المقابل، على المؤسسات المالية الوطنية أن تتبنى نهجا جديدا في التفكير الإداري، نهجا يدمج بين التحليل الكمي والرؤية الإنسانية. فالمواطن ليس ملفا رقميا في قاعدة بيانات، بل كيان منتج قادر على الإسهام في النمو إذا ما فهمت دوافعه وطورت أدوات تناسب احتياجاته. وهنا يتجلى دور القيادة الوطنية في توجيه التحول الرقمي من منطق الربح السريع إلى منطق التمكين الشامل.
إن التحول نحو الشمول المالي الذكي هو استثمار في الإنسان قبل أن يكون استثمارا في التقنية. فالدول التي تدرك أن العدالة الاقتصادية هي البنية التحتية الحقيقية للاستقرار، ستجد في الذكاء الاصطناعي شريكا استراتيجيا لا مجرد أداة تشغيلية. إنه يمكنها من بناء نظام مالي متفاعل، يحترم تنوع المواطن، ويستجيب لمتغيرات السوق، ويعزز حضورها الدولي باعتبارها نموذجا في التوازن بين التقنية والقيم.
ختاما، إن الذكاء الاصطناعي لن يصنع مستقبلا عادلا بمفرده، لكنه سيصنعه لمن يمتلك الرؤية والوعي لتوجيهه نحو الإنسان. فالدولة التي تجعل من التقنية وسيلة لاحتواء مواطنيها، لا لاستبعادهم، تبني لنفسها إرثا تنمويا لا يزول. وفي عصر تتسابق فيه الأمم على الذكاء الصناعي، ستتصدر تلك التي تفهم أن الذكاء الحقيقي هو عدالة تمارس لا خوارزمية تكتب، وأن الوطن الذكي هو الذي يضع الإنسان في قلب كل معادلة اقتصادية رقمية.





























