بقلم: ا.د هاشم الحمامي
في تاريخ الشعوب لحظات لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بما تخلّفه في الوجدان الجمعي من أثر لا يُمحى. لحظاتٌ تُولد من رحم القهر، وتكبر كصرخة حرّة تشقّ جدار الصمت، وتفجّر الحقيقة في وجه الزيف. من تلك اللحظات، ما يُخلّد لا لأنه مكتوب في دفاتر السياسة، بل لأنه محفور في ضمير الأمة، كنبضٍ لا ينطفئ، وكقنديلٍ يقود الأحرار في عتمة الاحتلال.
إنها ليست حكاية حذاءٍ طائش في مؤتمر صحفي، بل ملحمة كرامة انفجرت من بين أصابع رجل أعزل، واجه بها رؤوس الظلم بجرأة رمزية أبلغ من كل الخطب النارية. في ذلك اليوم، لم يكن منتظر الزيدي وحده من رمى الحذاء، بل كانت الأمة كلّها — بخيباتها، وغضبها، وتوقها للتحرر — هي من ألقاه.
في الرابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008، وفي قلب بغداد المحتلة، تجسدت لحظة تاريخية فاصلة، محفورة في ذاكرة الأمة، حين انتفضت كرامة شعب مكلوم لتُطلق صرخة مدوية. لم تكن صرخة عادية، بل كانت تجسيداً حياً لرفض مطلق، وتعبيراً قاطعاً عن سخط متراكم، حملته حذوتان انطلقتا بقوة إرادة شعب أبيّ، لتصيبا وجهي الاحتلال وعملائه.
كان بطل هذه اللحظة الصحفي العراقي منتظر الزيدي، الذي لم يجد وسيلة أبلغ وأكثر رمزية للتعبير عن غضب شعبه من إلقاء حذائيه في وجه جورج بوش الابن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي أمر بغزو العراق عام 2003، وفي وجه نوري المالكي، الذي رآه الشعب العراقي عميلاً مزدوجاً لأمريكا وإيران، وقد نُصّب رئيساً للوزراء بعد الاحتلال. لم يكن هذا الفعل مجرّد ردّ فعل فردي، بل كان رسالة واضحة لا لبس فيها من الشعب العراقي إلى أمريكا وأذرعها المحلية، مفادها:
“نرفض مشاريعكم، ونرمي أحذيتنا في وجوهكم، تعبيراً عن هذا الرفض القاطع.”
لقد خلّدت هذه الحادثة، بما تحمل من رمزية عميقة، مشهد أكذوبة ما سُمّي بـ”تحرير العراق من الدكتاتورية” و”بناء عراق حر ديمقراطي”. أثبت الشعب العراقي، من خلال فعل الزيدي، رفضه التام لمشاريع الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة برئيسها جورج بوش الابن، ورفضه الموازي لمشاريع إيران التوسعية في العراق والمنطقة، ممثلة بعميلها نوري المالكي، الذي تشير أصابع الاتهام إلى أنه نشأ في أحضان المخابرات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني.
لقد مزّقت هذه الحادثة وهماً أمريكياً محبوكاً، سوّقت له واشنطن أمام العالم بأنها جاءت “لتحرير العراق” و”نشر الديمقراطية”. لكن الحذاءين أفصحا عن حقيقة أخرى: رفض شعبي عارم للوجود الأجنبي، ورفض أعمق لوكلائه من الذين تسلّموا السلطة على حساب سيادة العراق ووحدته وكرامة شعبه.
لقد مثلت حادثة رمي الحذاءين رفضاً قاطعاً للعملاء الذين جاؤوا مع الاحتلال، والذين تم إعدادهم في دهاليز المخابرات الأجنبية لتنفيذ أجندات مشبوهة لا تخدم مصلحة الوطن. كانت الحادثة بمثابة صفعة رمزية على وجه كل من خان وطنه وتآمر على شعبه.
والأهم من ذلك، أنها شكّلت لحظة وعي ناضج للشعب العراقي بمخاطر المشاريع الخارجية، وما تهدف إليه من تمزيق الدول وتفتيت المجتمعات وإدامة الفوضى. كانت تلك لحظة صحوة، أكدت أن الشعوب الحرة لا تقبل الذل، وأنها — حتى في أضعف حالاتها — قادرة على رفع صوتها بما تملك. وفي بعض الأحيان، تتحدث الأحذية بلغة أبلغ من كل الخطب الرسمية، وتوصل رسائل أقوى من كل البيانات الدبلوماسية.
فذلك الحذاء الذي طار في وجه الطغيان، لم يكن مجرد قطعة جلد، بل كان قصيدة غضبٍ وقصة شعبٍ جُرِّد من صوته، فاخترع رمزه من تحت قدميه… ومضى في التاريخ.





























