بقلم: د. مروة بنت سلمان آل صلاح
مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي
لم يعد الفضاء الرقمي فضاءً موازياً للعالم الواقعي، بل أصبح امتداده الطبيعي، بلغة البيانات لا الحروف، وبمنطق السرعة لا المسافة. العالم اليوم يعيش مرحلة تُعاد فيها صياغة الأخلاق والسلوك ضمن بيئة خوارزمية تُعيد تعريف مفاهيم الثقة، والخصوصية، والهوية.
فالإنسان، الذي كان يقيس وجوده بالحضور الفيزيائي، أصبح يقاس أثره الآن بكمّ البيانات التي ينتجها كل يوم. ومع هذا التحول، لم تعد السلوكيات البشرية مجرد تفاعلات اجتماعية، بل أنماط رقمية تُترجمها الخوارزميات وتخزنها المنصات لتشكل ما يمكن تسميته بـ “الهوية السلوكية الرقمية” — هوية قد تسبق حتى الوثائق الرسمية في تحديد من نحن وماذا نفعل.
في هذا العالم المشبع بالاتصال، تتداخل النوايا بالأرقام، وتتشابك الحرية بالمخاطر. فبينما تفتح الرقمنة آفاقاً غير مسبوقة للتعليم، والتجارة، والإبداع، فإنها في الوقت نفسه تخلق بيئة خصبة لنشوء أنماط جديدة من الجرائم، أكثر ذكاءً وأقل وضوحًا.
فالمجرم الرقمي لم يعد يختبئ خلف قناع، بل خلف كود، وخلف حساب مزيف، وخلف وهمٍ اسمه “الافتراضي“.
تشير التقديرات الحديثة إلى أن نحو 60% من الجرائم الإلكترونية في الشرق الأوسط لا يتم الإبلاغ عنها رسميًا، إما خوفًا من المساس بالسمعة، أو لضعف الوعي بالإجراءات القانونية الخاصة بالجرائم الرقمية.
وفي الأردن وحده، سجّلت وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية أكثر من 13 ألف بلاغ خلال عام 2024، تراوحت بين الاحتيال المالي، والابتزاز الإلكتروني، وانتحال الهوية، وهي أرقام تكشف أن السلوك الرقمي بات مرآة دقيقة لحالة المجتمع في الفضاء السيبراني — مرآة لا ترحم.
ولأن التكنولوجيا لا تحمل أخلاقاً بطبيعتها، فإنها تصبح انعكاساً دقيقاً لمن يستخدمها.
الجرائم الرقمية اليوم لم تعد محصورة في القرصنة أو سرقة المعلومات، بل تطورت لتشمل جرائم رأي، وتنمرًا إلكترونيًا، وتسريب بيانات، وتلاعبًا في المحتوى لتوجيه الرأي العام.
هنا، تتحول المعلومة إلى سلاح، والصورة إلى أداة ضغط، والكلمة إلى رصاصة رقمية قد تقتل المعنويات قبل الأجساد.
لكن المعضلة الحقيقية لا تكمن في التقنية ذاتها، بل في السلوك الإنساني الذي يعيد إنتاج ذاته داخل البيئة الرقمية دون وعي كافٍ بالفوارق.
فما يُقال في العالم الواقعي يخضع للمساءلة، أما ما يُكتب في الفضاء الرقمي، فيظنه البعض عابرًا بلا أثر، رغم أن أثره قد يكون أبقى من الحبر.
إن التحول نحو الحياة الرقمية يتطلب سلوكًا جديدًا، أخلاقًا جديدة، وإدراكًا عميقًا بأن “ما يُنشر لا يُمحى”، وأن المسؤولية الرقمية ليست خيارًا، بل ثقافة يجب أن تُغرس في التعليم والإعلام والسياسات العامة.
لقد كشفت دراسات متعددة أن أكثر من 70% من المستخدمين لا يقرأون سياسات الخصوصية عند التسجيل في التطبيقات، ما يجعلهم يوقعون على تنازلات غير مقصودة لحقوقهم الرقمية.
هذه الظاهرة، على بساطتها، تختصر الفجوة الأخلاقية والمعرفية في التعامل مع الفضاء الرقمي. إنها ليست مسألة تقنية بقدر ما هي مسألة وعي وسلوك، تضعنا أمام سؤال جوهري:
هل نحن نستخدم التقنية، أم أننا أصبحنا نُستخدم من خلالها؟
تحتاج المجتمعات اليوم إلى “ميثاق سلوك رقمي”، لا تنظيمي فقط، بل قيمي، يضع الإنسان في مركز المنظومة الرقمية لا في هامشها.
ميثاق يوازن بين حرية التعبير والمسؤولية، وبين سرعة الوصول ودقة المعلومة، وبين الانفتاح والأمان.
فالتربية الرقمية لا تقل أهمية عن التعليم الأكاديمي، لأنها تمثل الحصن الأول ضد الجريمة قبل أن تصبح قضية في المحكمة.
إن الأردن، الذي قطع شوطًا مميزًا في بناء منظومته للتحول الرقمي، أمام فرصة تاريخية لتعزيز ما يمكن تسميته بـ “الأمن السلوكي الرقمي” — أي بناء ثقافة وقائية تشارك فيها المدرسة، والإعلام، والقطاع التقني، والمجتمع المدني.
فكلما زاد وعي الأفراد بآثار تصرفاتهم الرقمية، تراجعت مساحة الجريمة، وتقدمت الثقة.
العصر الرقمي لا ينتظر أحدًا، لكنه أيضًا لا يرحم من يجهل قواعده.
إن مواجهة الجرائم الإلكترونية لا تتحقق فقط عبر القوانين والتقنيات، بل عبر إعادة هندسة الوعي الإنساني. فالقانون يعاقب بعد الجريمة، لكن الوعي يمنعها قبل أن تقع.
لقد تحولت الشبكة من “فضاء تشابُك” إلى “ميدان جرائم”، ولكنها يمكن أن تعود لتكون “فضاء وعي” إذا أدرك الإنسان أن كل نقرة، وكل مشاركة، وكل تعليق، هو سلوك يحمل بصمة أخلاقية لا تُمحى.
وفي زمنٍ تتصارع فيه البيانات على قيادة العالم، يبقى السلوك هو اللغة التي تحدد اتجاه المستقبل.
ولأن التقنية ليست قدَرًا بل أداة، فإن أذكى خطوة في عصر الذكاء الاصطناعي هي أن نعيد للإنسان وعيه بمسؤوليته الرقمية، ليكون سيد الخوارزمية لا تابعًا لها.
ففي النهاية، ليست الخطورة في تطور التقنية، بل في تراجع الإنسان أمامها.
ولن يكون الأمن الرقمي مستدامًا إلا حين يصبح “الوعي” هو الجدار الأول، و”الأخلاق الرقمية” هي العملة التي تُبنى بها الثقة في عالمٍ يتسع لكل شيء إلا للجهل والسلوك الطائش.





























