بقلم: ا.د هاشم الحمامي
مقدمة: حين تنقلب الجغرافيا على التاريخ
في منعطفات الزمن الحاسمة، تتبدد الأقنعة، وتتكشف الحقائق التي طالما اختبأت خلف الشعارات. ومن قلب العتمة التي خيّمت على الشرق الأوسط، بزغ فجرٌ دامٍ في السابع من أكتوبر 2023، لم يكن كسابقاته من أيام الصراع، بل شكّل شرارة لتحوّل استراتيجي أوسع، أعاد رسم خرائط النفوذ الإقليمي، وفتح كوةً في جدار الصمت الدولي تجاه سلوك إيران.
من هناك، من حيث ظن النظام الإيراني أن قبضته قد اكتملت، بدأ التصدع، وارتجّ المحور، وارتسم سؤال وجودي في أفق طهران:
هل بات زمن التمدد وراءها؟ وهل اقترب زمن الحساب؟
أولاً: النظام الإيراني… سلوك ثابت في عالم متغيّر.
منذ تأسيسه عام 1979، حافظ النظام الإيراني على استراتيجية توسعية قائمة على تصدير الثورة، متسلحاً بخطاب أيديولوجي واستغلالٍ ممنهج للبعد الطائفي. لم يكن “محور المقاومة” سوى أداة لإحكام القبضة على جغرافيا عربية متعددة، عبر وكلاء محليين منضوين تحت عباءة “الولاء للولي الفقيه”.
خلال العقود الماضية، لم يغيّر هذا النظام جوهر سلوكه، وإن غيّر أدواته. تكيّف مع العقوبات، وناور في المفاوضات، وتوسّع عبر الميليشيات، لكنه حافظ على معادلة “اللعب على الحافة” دون السقوط في الحرب الشاملة.
لكن ما بعد السابع من أكتوبر لم يشبه ما قبله؛ فالمعادلات تغيّرت، والردع التقليدي تآكل، والشرعية الأيديولوجية تصدّعت.
ثانياً: من رعاية إلى ارتداد: كيف ارتدت نيران 7 أكتوبر على طهران
رغم أن عملية 7 أكتوبر نُفذت بيد “حماس”، فإن آثارها السياسية والعسكرية ارتدت نحو الراعي الأبرز للحركة: إيران. فسنوات من التسليح والتحريض والدعم اللوجستي، تحوّلت إلى دليل اتهام مباشر ضد طهران.
لكن الرد الإسرائيلي ـ الأميركي كان مختلفاً هذه المرة؛ إذ تجاوز وكلاء إيران ليصل إلى قلبها لأول مرة.
نعم، لقد نفذت إسرائيل والولايات المتحدة ضربات مباشرة داخل الأراضي الإيرانية، بما في ذلك منشآت نووية، في خطوة كسرت الخطوط الحمراء التي طالما توهّم النظام حصانتها.
هذا التحول لم يكن عسكرياً فقط، بل كان رمزياً ونفسياً: لقد سقطت صورة إيران كـ”اللاعب الذي لا يُمس”، وأصبحت داخل الحسابات، عرضة للردع والتأديب.
ثالثاً: إيران تحت المجهر الدولي… الداخل لم يعد آمناً
توسعت المواجهة مع إيران لتأخذ طابعاً متعدد الأوجه: عسكرياً، استخباراتياً، ودبلوماسياً.
ففي الوقت الذي تهاطلت فيه الضربات على وكلائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، تزايدت الاتهامات الغربية الموجهة للنظام الإيراني بالتخطيط لهجمات داخل الولايات المتحدة، وفق ما أوردته تقارير استخباراتية أميركية مؤخراً.
كذلك، أصدرت المملكة المتحدة تقريراً رسمياً اتهم عناصر مرتبطة بإيران بمحاولات اغتيال على الأراضي البريطانية، استهدفت شخصيات يهودية ومعارضين للنظام، ما أضفى بُعداً جنائياً على سلوك الدولة الإيرانية.
وجاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في 7 تموز/ يوليو 2025، ولقاؤه بالرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، ليؤكد أن الملف الإيراني عاد إلى رأس أولويات الإدارة الأميركية، مع بحث خيارات تشمل العمل العسكري الموسع، أو دعم تغيير داخلي مدروس.
> وعلى الرغم من علاقات إيران المتينة مع موسكو وبكين، فإن صمتهما حيال الضربات الغربية الأخيرة يشير إلى إعادة تموضع محسوبة، لا تصب بالضرورة في مصلحة طهران.
رابعاً: انكفاء المحور… وسقوط الوكلاء من أكتاف راعيهم
بدأت مؤشرات الانكفاء الإيراني تظهر بوضوح على الأرض:
في لبنان: حزب الله يواجه تراجعاً حاداً في شرعيته الاجتماعية، وسط أزمات اقتصادية خانقة واستياء شعبي من جر البلاد إلى مغامرات محسوبة على طهران.
في اليمن: تلقى الحوثيون ضربات مركزة قلّصت من قدراتهم الجوية والبحرية، وأضعفت قدرتهم على المناورة.
في العراق: يتصاعد الحراك الشعبي المناهض للنفوذ الإيراني، مدعوماً بعودة الانفتاح الخليجي ـ العراقي، وضغوط أميركية متزايدة على الحكومة.
وبحسب تقارير صادرة عن “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، فإن إيران بدأت لأول مرة بضبط إيقاع أذرعها، لا استجابةً للتكتيك بل خشيةً من التصعيد غير القابل للضبط.
تحوّلت أدواتها الإقليمية من ذخر استراتيجي إلى عبء سياسي وأمني يهدد أمنها الداخلي.
خامساً: سيناريو تغيير النظام… هل أصبح أقرب من أي وقت مضى؟
كل المؤشرات، داخلية وخارجية، تدفع باتجاه سيناريوهات مفتوحة على احتمال تغيير النظام الإيراني، سواء عبر انقلاب داخلي، أو تدخّل غير مباشر.
تشير تقارير استخباراتية إلى تصدعات خفية داخل مؤسسة الحرس الثوري، وصراع غير معلن بين الأجنحة المحافظة والإصلاحية. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتراجع القدرة الشرائية، وتصاعد الغضب الشعبي، يزداد احتمال التغيير.
أبرز السيناريوهات المحتملة:
1. استمرار النظام مع تخفيض سقف الطموحات الإقليمية — وهو سيناريو ضعيف في ظل التآكل الداخلي.
2. انقلاب داخلي تقوده عناصر من الحرس الثوري أو إصلاحيون من داخل المؤسسة.
3. دعم خارجي لتغيير تدريجي في بنية الحكم، ربما يأخذ شكل “الانتقال الهادئ” عبر إعادة ترتيب التوازنات.
خاتمة: حين تسقط الأسطورة من داخل الكهف.
إن إيران، كما عرفها العالم منذ 1979، تقف اليوم على حافة التحول. ليس لأن خصومها باتوا أقوى، بل لأن مشروعها نفسه نخره الوهن، وتناقضاته تفجّرت من الداخل.
لقد أنهكها التمدد، واستنزفها الإنكار، وأصبحت أذرعها عبئاً لا مكسباً. ومع كل ضربة تُوجَّه إلى وكلائها، ومع كل صرخة احتجاج في شوارع طهران أو شيراز أو أصفهان، تقترب لحظة الانفجار…
لكن السقوط، إن حدث، لن يأتي على صهوة جيوش خارجية، بل من داخل الكهف ذاته، حيث يتراكم العفن، وتنهار الأسطورة… لا بانفجار مدوٍ، بل بانهيار صامت من عمق الغرور.





























