بقلم: أ.د عبدالرزاق الدليمي
عندما سئل عالم النفس والكاتب / إريك هوفر ما هو أفيون الشعوب؟
أجاب :الفكر الذي يأمر الناس بالصبر على الظلم دون رفضه و القناعة بالفقر دون مكافحته ،و الرضى بالواقع المزري دون محاولة تغييره هو أفيونٌ للشعوب “.
!!: إذن فلننظر أيهم هو بائع الأفيون الذي يجب القضاء عليه أولاً .لانه ليس جنسًا واحدًا!
لقد أصاب عالم النفس والكاتب إريك هوفر كبد الحقيقة عندما سُئل عن “أفيون الشعوب”. لم تكن إجابته مقتصرة على الدين أو الأيديولوجيات السياسية كما قد يظن البعض، بل تجاوزت ذلك لتشمل كل فكر يغذي الاستسلام والخنوع. هوفر لخص “أفيون الشعوب” في ثلاث ركائز مدمرة: الصبر على الظلم دون رفض، والقناعة بالفقر دون مكافحة، والرضا بالواقع المزري دون محاولة تغييره. هذه الركائز تشكل معًا بيئة مثالية لتكريس القمع واستمرار المعاناة.
إن هذا التوصيف الدقيق يدعونا للتفكير بعمق في “بائع الأفيون” الحقيقي الذي يجب القضاء عليه أولاً. فليست المشكلة في جنس واحد أو طرف واحد، بل هي شبكة معقدة من العوامل التي تتقاطع لتخلق حالة من الخدر الاجتماعي والقبول بالاستعباد.
أبعاد “أفيون الشعوب”
الصبر على الظلم دون رفض فعندما يُغرس في نفوس الناس أن الصبر على الظلم فضيلة مطلقة، وأن مجرد القبول بالاضطهاد هو قدر لا مفر منه، فإنهم يفقدون قدرتهم على المقاومة والمطالبة بالحقوق. هذا الفكر يحول الضحية إلى شريك صامت في قمعها، ويُجردها من أدواتها الطبيعية للدفاع عن الذات. بائع هذا الأفيون قد يكون سلطة مستبدة تُروّج للطاعة المطلقة، أو خطابًا دينيًا يُفسر النصوص بما يخدم مصالح الحكام، أو حتى بنية اجتماعية ترسخ عدم المساواة وتُشجع على الخنوع.
القناعة بالفقر دون مكافحة فعندما يُعد إقناع الفقراء بأن فقرهم هو إرادة إلهية، أو نتيجة لقدر محتوم، أو حتى اختبار يوجب عليهم الشكر والامتنان، شكلًا فتاكًا من أفيون الشعوب. هذا الفكر يُثبط أي محاولة للتغيير الاقتصادي، ويقتل روح المبادرة والعمل الجاد للخروج من دائرة الفقر. “بائع” هذا النوع من الأفيون قد يكون نظامًا اقتصاديًا رأسماليًا متوحشًا يُعمّق الفجوة بين الطبقات، أو أيديولوجية تُبرر التفاوت الطبقي، أو حتى ثقافة تُعلي من قيمة الزهد السلبي على حساب السعي لتحقيق الكرامة الاقتصادية.
الرضا بالواقع المزري دون محاولة تغييره وهنا يصل الأفيون إلى ذروته عندما يُقنع الأفراد بأن واقعهم البائس هو أفضل ما يمكن تحقيقه، أو أن أي محاولة للتغيير ستؤدي إلى ما هو أسوأ. هذا الشعور باليأس والعجز يُقوض أي مبادرة للإصلاح أو الثورة، ويجعل الناس يتأقلمون مع الظلم والفساد والفقر كحقائق ثابتة. بائع هذا الأفيون قد يكون آلة إعلامية ضخمة تروج للسلبية واللاجدوى، أو نظامًا تعليميًا يُكبت التفكير النقدي، أو حتى شبكات اجتماعية تُروّج للشائعات التي تُثبط الهمم.
من هو بائع الأفيون؟
إن نظرة هوفر تُظهر أن “بائع الأفيون” ليس كيانًا واحدًا، ولا يمكن حصره في جنسية أو عقيدة معينة. إنه ليس فردًا، بل هو مجموعة معقدة ومتشابكة من:
الأنظمة المستبدة: التي تستخدم القوة والخداع لترسيخ حكمها، وتُروّج لأفكار الخنوع والطاعة.
المؤسسات الفاسدة: التي تستفيد من بقاء الأوضاع الراهنة وتُحارب أي تغيير يهدد مصالحها.
الأيديولوجيات المنحرفة: التي تُقدم تفسيرات مُحرفة للمفاهيم الدينية أو الفكرية لدعم الاستسلام والخنوع.
النخب الانتهازية: التي تُشارك في قمع الشعوب مقابل مكاسب شخصية.
الجهل والوعي الزائف: الذي يُمكن أن يكون تربة خصبة لنمو هذه الأفكار المسمومة.
لذلك، فإن القضاء على “بائع الأفيون” يتطلب مواجهة شاملة متعددة الأوجه. لا يكفي إسقاط طاغية واحد، بل يجب العمل على تفكيك البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي تنتج هذا الأفيون وتُروجه. يتطلب الأمر ثورة فكرية تُعلي من قيم الوعي، والمقاومة السلمية، والعمل الجاد، والسعي الدائم نحو الأفضل.
إن فهمنا لمفهوم إريك هوفر يدعونا إلى اليقظة الدائمة ضد كل ما يُشجع على الاستسلام واليأس، ويُذكرنا بأن التغيير الحقيقي يبدأ عندما يرفض الشعب أن يكون مدمنًا على أفيون الخنوع، ويُقرر مكافحة واقعه المزري بكل السبل الممكنة.
بائعو الأفيون في العراق المحتل وجوه متعددة لمعاناة واحدة
في سياق ما ذكره إريك هوفر عن “أفيون الشعوب”، تزداد هذه الفكرة تعقيدًا وإيلامًا عندما نتحدث عن العراق المحتل. ففي بيئة كهذه، لا يقتصر “بائع الأفيون” على جهة واحدة، بل يتخذ أشكالًا متعددة، كلها تساهم في إبقاء الشعب العراقي في حالة من الخدر والاستسلام لمصيره الأليم.
1. الاحتلال الأجنبي وسياساته القاصرة:
منذ عام 2003، كانت السياسات الأمريكية المتخبطة والفشل في بناء دولة مستقرة هي أول بائع للأفيون. الوعد بالديمقراطية والازدهار تحول إلى فوضى، وغياب رؤية واضحة لإدارة مرحلة ما بعد الغزو أوجد فراغًا استغله الجميع. هذا الفشل في تحقيق الوعود خلق حالة من اليأس والإحباط، وجعل الكثيرين يرضخون لواقع صعب، ظنًا منهم أنه لا بديل. هذا بحد ذاته شكل من أشكال “أفيون القناعة بالواقع المزري”.
2. النفوذ الإقليمي (خاصة إيران وعملاءها):
هنا يظهر بائع أفيون أكثر خبثًا وتغلغلًا. النفوذ الإيراني عبر وكلائه وأحزابه وميليشياته في العراق هو المحرك الأساسي لـ “أفيون الصبر على الظلم دون رفض”. هؤلاء الوكلاء، مدعومين بقوة خارجية، يعملون على:
تغييب الوعي الوطني: عبر ترويج الولاءات الطائفية والفئوية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، مما يفتت المجتمع ويجعل مقاومة الظلم أكثر صعوبة.
فرض أجندات خارجية: بتحويل العراق إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية، واستنزاف ثرواته لخدمة مصالح غير عراقية، مع إقناع الناس بأن هذا “قضاء وقدر” أو “مصلحة عليا”.
نشر الفساد الممنهج: الفساد الذي ينهش مفاصل الدولة يفقر الشعب ويُجرد الدولة من قدرتها على تقديم الخدمات. هذا الفقر يُدفع الناس إلى القناعة بـ “الفتات” بدلاً من المطالبة بحقوقهم كاملة.
قمع الأصوات الحرة: كل من يحاول فضح الظلم أو يطالب بالتغيير يواجه القمع والتخوين، مما يُرسخ الخوف ويُجبر الكثيرين على الصمت، وهذا هو أقصى درجات “أفيون الرضا بالواقع المزري”.
3. الأحزاب والقيادات الفاسدة والمحاصصة :
هؤلاء هم “البائعون الداخليون” للأفيون. لقد استغلوا ضعف الدولة بعد الاحتلال، وركبوا موجة الطائفية والمحاصصة لتقسيم الكعكة العراقية. هم يبيعون الأفيون من خلال:
المحاصصة المقيتة: التي قسمت العراق على أسس طائفية وعرقية، ووزعت المناصب والثروات على الموالين، مما أفرغ مؤسسات الدولة من الكفاءة وجعلها عاجزة عن خدمة الشعب. هذا يخلق “أفيون القناعة بالفقر” لأن الموارد تُستنزف ولا تصل إلى مستحقيها.
الفساد المستشري: الذي حوّل ثروات العراق إلى جيوب خاصة، تاركًا الشعب يرزح تحت خط الفقر. ثم يُقنعون الناس بأن هذا هو نصيبهم، أو أنهم لا يستطيعون فعل شيء حيال ذلك، وهذا شكل مباشر من أفيون “القناعة بالفقر دون مكافحة”.
التضليل الإعلامي: عبر أبواقهم الإعلامية التي تروج للأكاذيب وتُزيف الحقائق وتُنشر اليأس، مما يُثبط أي محاولة للتغيير ويُعمق “الرضا بالواقع المزري”.
4. الخطاب الديني أو الأيديولوجي المنحرف:
بعض الجهات، سواء كانت دينية أو سياسية، تستغل المشاعر والقناعات لنشر أفيون الاستسلام. هذا يكون عبر:
تفسيرات خاطئة للنصوص: تُحرض على الطاعة المطلقة للحاكم الفاسد، أو تُبرر الظلم والفقر على أنه “ابتلاء إلهي” يجب الصبر عليه دون فعل.
تأجيج النعرات الطائفية: لخلق العداوة بين أبناء الوطن الواحد، وصرف انتباههم عن الفاسدين الحقيقيين، مما يخدم مصالح بائعي الأفيون الآخرين.
القضاء على بائعي الأفيون: معركة شاملة
إن القضاء على بائعي الأفيون في العراق ليس بالأمر السهل، لأنه يتطلب معركة شاملة متعددة الأوجه:
على الصعيد الدولي: دعم الجهود الدولية لإنهاء التدخلات الأجنبية، ومحاسبة الأطراف التي تدعم الفساد وتعيق بناء الدولة.
على الصعيد الوطني:
تعزيز الوعي: بنشر الوعي الحقيقي بحقوق الشعب، وفضح ألاعيب الفاسدين والعملاء.
بناء مؤسسات قوية: تعمل وفقًا للدستور والقانون، بعيدًا عن المحاصصة والولاءات الخارجية.
مكافحة الفساد: بشكل جذري، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاسبة الفاسدين مهما علا شأنهم.
دعم الأصوات الحرة: وحماية النشطاء والصحفيين وكل من يرفع صوته ضد الظلم.
توحيد الصف: تجاوز الطائفية والعرقية والتركيز على الهوية الوطنية العراقية الجامعة.
إن التحرر من أفيون الاستسلام يتطلب أولاً وقبل كل شيء إرادة شعبية حقيقية للرفض والتغيير. عندها فقط يمكن للعراق أن يبدأ رحلته نحو السيادة الكاملة والازدهار الذي يستحقه شعبه.





























