بقلم: د. مروة بنت سلمان آل صلاح
مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي
في زمنٍ يُعاد فيه ترتيب القيم كما تُعاد برمجة الأكواد، يقف العالم على حافة تحوّلٍ لا يشبه أيّ ما سبق. لم يعد الغنى يُقاس بما في اليد من ذهب، بل بما في الخوادم من بيانات، ولم تعد المكانة تُمنح لمن يملك الأراضي أو المصانع، بل لمن يملك الخوارزمية القادرة على إدارتها. نحن أمام اقتصادٍ جديد لا تحكمه القوانين المالية التقليدية، بل الذكاء الاصطناعي، ولا تهيمن عليه الطبقة الرأسمالية القديمة، بل النخبة الرقمية التي تعرف كيف تحوّل المعلومة إلى سلطة.
هذا التحول لم يعد نظرية. الأرقام تتحدث بوضوح: أكثر من 60% من الوظائف في العالم مهددة بالأتمتة خلال العقد القادم، وفقًا لتقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، وقرابة 40% من الطبقة الوسطى مهددة بالانزلاق نحو الهشاشة الاقتصادية بحلول عام 2035. في المقابل، تضاعفت ثروات شركات التكنولوجيا الكبرى خمس مرات خلال عشر سنوات، وأصبح أقل من 10% من سكان العالم يتحكمون في أكثر من 90% من البيانات الرقمية المتاحة.
الطبقة الوسطى التي شكّلت لقرنين ركيزة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، تتآكل اليوم أمام صعود اقتصادٍ لا يعترف بالجهد البشري بقدر ما يقدّس سرعة الخوارزميات ودقة التنبؤ. كان العمل في الماضي يقاس بالوقت والمهارة، أما الآن فيقاس بمستوى التفاعل مع الأنظمة الذكية. كل دقيقة بيانات تُنتج ثروة، وكل خط كود يعادل مصنعًا.
في الأردن، بدأت ملامح التحول تتسلل بهدوء. تشير بيانات وزارة الاقتصاد الرقمي إلى أن عدد الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تجاوز 500 شركة عام 2024، بزيادة تقارب 32% عن العام السابق. هذه الأرقام ليست مجرد نمو اقتصادي، بل مؤشر على تحوّلٍ في بنية العمل الوطني. فمؤسسة أردنية واحدة تمتلك منظومة بيانات قوية تستطيع أن تنافس شركات إقليمية كانت تحتاج لعقود لبناء نفوذها. رأس المال البشري الأردني المتميز لم يعد يحتاج الهجرة ليبدع، بل يحتاج بيئة رقمية محلية تحتضنه وتفتح له المجال لصناعة القيمة.
لقد تحولت البيانات إلى نفط القرن الحادي والعشرين، لكنها نفط بلا جغرافيا. من يملكها يملك السوق، ومن لا يملكها يصبح جزءًا من معادلتها دون أن يدرك. في هذا المشهد، ولدت طبقة جديدة: النخبة الخوارزمية. فئة لا تُقاس ثروتها بالعملة، بل بالكود، ولا تُعرّف سلطتها بالمنصب، بل بالوصول إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تدير العالم. هذه النخبة لا تبيع منتجات، بل تتحكم في الأنماط الاستهلاكية للبشر، وتوجّههم دون أن يشعروا، عبر الخوارزميات التي تختار لهم ما يشاهدون، وما يشترون، وما يؤمنون به.
المفارقة أن الذكاء الاصطناعي الذي وُلد لتسهيل حياة الإنسان، بدأ يهدد وجوده المهني. أكثر من 300 مليون وظيفة قابلة للأتمتة خلال العقد المقبل بحسب “غولدمان ساكس”، و70% من طلاب الجامعات اليوم سيلتحقون بأعمال لم تُخترع بعد. هذه الأرقام لا تُثير الخوف فقط، بل تفرض سؤالًا وجوديًا: ما الذي تبقّى من الطبقة الوسطى إن فقدت أدوات البقاء التي صنعتها؟
الإجابة لا تكمن في مقاومة التحول، بل في إعادة تعريفه. فكما احتاجت البشرية إلى قرنٍ لتتعلم القراءة والكتابة، تحتاج اليوم إلى عقدٍ واحد لتتعلم لغة الآلة. التعليم لم يعد مرحلة، بل منظومة مستمرة. من يمتلك المهارة الرقمية يصبح مواطنًا في الاقتصاد الجديد، ومن يفتقدها يبقى خارج الزمن الاقتصادي.
القوة اليوم ليست في رأس المال المادي، بل في القدرة على الفهم والتأثير داخل النظام الخوارزمي. العدالة لم تعد تعني توزيع الثروة، بل إتاحة الوصول إلى المعرفة التقنية. كل دولة تتأخر في بناء سيادتها الرقمية، تُسهم في تعميق الفجوة بين من يصنع القرار ومن يُصنع له. فحين تصبح الخوارزميات محتكرة من قبل شركات عابرة للحدود، تتحول الدول إلى مستخدمين لا إلى صانعين، وتفقد سيادتها على وعي شعوبها قبل مواردها.
لقد دخلنا زمنًا يكتب فيه التاريخ بالكود. القرارات الاقتصادية الكبرى تُتخذ بناءً على أنماط بيانات تُحللها خوارزميات أسرع من قدرة الإنسان على التفكير. في الأسواق العالمية، تتحكم أقل من 15 شركة في أكثر من 70% من حركة البيانات اليومية. هذه ليست مجرد أرقام، بل خريطة جديدة للسلطة العالمية، حيث يُعاد تعريف مفهوم السيادة والطبقة والمواطنة في ضوء من يمتلك الخوارزمية لا الأرض.
ومع هذا الصعود المذهل للنخبة الرقمية، لا بد أن نتذكر أن التكنولوجيا ليست قدرًا مقدسًا، بل أداة. من يتحكم بها يحدد وجه المستقبل، ومن يكتفي بالاستهلاك يظل في الهامش مهما بلغ طموحه. السباق الحقيقي لم يعد بين الشرق والغرب، بل بين من يفهم الخوارزمية ومن يُستهلك بها.
في الأردن، الإنسان هو المحور الحقيقي لأي تحول رقمي. فالعقل الأردني الذي بنى نهضته بالعلم قادر على برمجة مستقبله بالكود ذاته. إن تحويل التعليم إلى تجربة رقمية واعية، وتمكين الشباب من أدوات الابتكار لا من ثقافة الاستهلاك، هو السبيل لصنع اقتصاد وطني ذكي لا يُقصي أحدًا. حين تُصبح المعرفة الرقمية حقًا عامًا، يتحول الذكاء الاصطناعي من خطر إلى وعد، ومن تهديد إلى فرصة.
إن المستقبل لن يرحم المتأخرين. من لا يملك خوارزميته اليوم، سيُدار بها غدًا. ومن لا يفهم اقتصاد المعلومة، سيبقى في سوق لا يرى نفسه فيه إلا كرقم في قاعدة بيانات. ومع ذلك، لا يزال في يد الإنسان الخيط الذي يُعيد التوازن. فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من الأكواد بقدر ما يحتاج إلى وعيٍ يقودها.
فالذكاء لا يكون في الآلة إلا بقدر ما ينعكس من الإنسان. وعندما نُعيد للوعي مكانه في قلب المعادلة، تولد الطبقة القادمة: الطبقة الإنسانية الذكية، تلك التي لا تحارب الخوارزميات، بل تكتبها بلغة الأخلاق، وتُعيد للذكاء الاصطناعي وجهه البشري، وللاقتصاد وجهه العادل، وللمستقبل روحه. وهناك فقط يعود الإنسان سيّد التقنية لا تابعها.



























