بقلم: د. مروة بنت سلمان آل صلاح
مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي
في زمن تتجاوز فيه الحدودُ الجغرافية معناها المادي لتتحول إلى رموز بيانات وأكواد رقمية، لم تعد أدوات النفوذ السياسي أو الاقتصادي حكرًا على الجغرافيا والموارد، بل أصبحت القدرة على إنتاج المعرفة الرقمية وتوجيهها هي العنصر الأهم في معادلة القوة الحديثة. وهنا تولد الدبلوماسية الاقتصادية الرقمية، كأحد أكثر المفاهيم تطورًا في عصر الذكاء الاصطناعي، لتعيد رسم موازين التأثير والنفوذ بين الدول. لم تعد العلاقات تُدار فقط من خلال السفارات والمؤتمرات، بل من خلال منصات رقمية عابرة للقارات، تتفاعل عبرها الاستثمارات والمصالح والقرارات في بيئة تتغذى على البيانات وتتحرك بسرعة الضوء.
التحول الجاري ليس مجرد رقمنة للأدوات الدبلوماسية، بل إعادة هيكلة شاملة لمفهوم الدبلوماسية ذاتها. فالاقتصاد الرقمي أصبح اليوم يُشكّل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن المتوقع أن يتضاعف بحلول عام 2030، وفق تقارير البنك الدولي. ومع هذا التحول، أصبحت السيطرة على تدفق المعلومات لا تقل أهمية عن السيطرة على خطوط التجارة، وأصبح امتلاك البنية التحتية الرقمية المتقدمة شرطًا للسيادة الوطنية. فالدولة التي تمتلك منظومات ذكاء اصطناعي قوية، وتشريعات مرنة لحوكمة البيانات، ومراكز بيانات قادرة على إدارة التدفق الاقتصادي العابر للحدود، هي التي تملك اليوم القدرة على التفاوض والتأثير.
ولعل أبرز ما يميز هذه المرحلة هو أن القوة الاقتصادية لم تعد تنبع من وفرة الموارد الطبيعية بل من كفاءة إدارة المعرفة الرقمية. فبينما كانت الثروات سابقًا تُستخرج من باطن الأرض، أصبحت اليوم تُستخرج من عمق الخوارزميات. هذه النقلة الجوهرية جعلت الدبلوماسية الاقتصادية الرقمية محورًا جديدًا لتقاطع السياسة بالتقنية، حيث تتقدم الدول التي تفهم لغة البيانات وتستثمر في الذكاء الاصطناعي لتقود التحالفات وتعيد تعريف التعاون الدولي.
وفي هذا الإطار، يبرز الأردن كنموذج عربي فاعل في التحول نحو الدبلوماسية الاقتصادية الرقمية. فقد تبنّى مسارًا متدرجًا نحو بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار والريادة، مستندًا إلى رؤى وطنية تعزز مكانته كمركز إقليمي للذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. إذ يشهد قطاع تكنولوجيا المعلومات في المملكة نموًا يفوق 8% سنويًا، ما يعكس ديناميكية البيئة الاقتصادية الأردنية وقدرتها على استقطاب الاستثمارات والشراكات العالمية. كما تُسهم المبادرات الوطنية للتحول الرقمي في ترسيخ مكانة الأردن على خارطة الاقتصاد الذكي، من خلال تطوير المدن الذكية، وتوسيع البنية التحتية الرقمية، وتعزيز منظومات الحوكمة والأمن السيبراني بما يحافظ على السيادة الرقمية ويصون المصالح الوطنية.
ومع تسارع هذا التوجه، يبرز الذكاء الاصطناعي كـذراع دبلوماسية جديدة. فالخوارزميات التنبؤية أصبحت قادرة على تحليل الأسواق وتوقع الأزمات وتوجيه المفاوضات التجارية، بموضوعية ودقة تفوق القدرات البشرية التقليدية. وفي موازاة ذلك، بدأت تقنيات “البلوكتشين” تُستخدم لتوثيق الاتفاقيات التجارية وتبادل البيانات المالية بشكل آمن وشفاف، ما يقلل النزاعات ويعزز الثقة بين الدول. بل إنّ التمويل اللامركزي (DeFi) بات يشكل أحد أشكال التعاون الاقتصادي الجديد، حيث تتجاوز المعاملات المالية الحدود والسياسات، لتخضع فقط لمنطق التقنية ومصداقية الخوارزمية.
لكن هذا المشهد المشرق لا يخلو من تحديات معقدة. فكلما زادت الرقمنة، اتسعت مساحة المخاطر. الأمن السيبراني، وحوكمة البيانات، والسيادة الرقمية أصبحت مفاهيم أساسية في أجندات الدول، لأنها تمثل خط الدفاع الأول عن استقلالها الاقتصادي. فالدولة التي لا تملك منظومة لحماية بياناتها الوطنية، تُصبح عُرضة للابتزاز الرقمي والتبعية التقنية. لذلك، باتت “الدبلوماسية الوقائية الرقمية” ضرورة ملحّة توازن بين الانفتاح على العالم الرقمي وحماية المصالح الوطنية من التهديدات غير التقليدية.
وتواجه الدول النامية تحديًا أكثر تعقيدًا يتمثل في اللحاق السريع بالثورة الرقمية دون التضحية بقيمها الإنسانية والاجتماعية. فالتحول الرقمي في العلاقات الاقتصادية لا يعني فقط استخدام أدوات جديدة، بل إعادة تعريف فلسفة الدبلوماسية ذاتها. إنها نقلة من منطق النفوذ إلى منطق التفاعل الذكي، من الدبلوماسية القائمة على المصالح إلى الدبلوماسية القائمة على البيانات والمعرفة المشتركة.
النجاح في هذا المجال لم يعد يقاس بعدد الاتفاقيات أو الزيارات الرسمية، بل بقدرة الدولة على بناء بيئة رقمية مرنة قادرة على التكيف مع الأسواق المتغيرة، وتحويل البيانات إلى أداة للابتكار والتفاوض والتأثير. فالسفير الرقمي في المستقبل قد لا يحمل حقيبة دبلوماسية، بل خريطة بيانات وتحليلات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تُرشده إلى كيفية إدارة الحوار الاقتصادي بأسلوب علمي وذكي.
في هذا السياق، تصبح الصورة الرقمية للدولة عنصرًا من عناصر قوتها الناعمة. فحضورها في المنصات الاقتصادية العالمية، واستراتيجياتها في الأمن السيبراني، ومكانتها في الاقتصاد المعرفي، كلها مؤشرات على نفوذها الحضاري الجديد. لقد أصبحت الهوية الرقمية مرآة تعكس ثقافة الدولة، وشفافيتها، وعمق مؤسساتها.
غير أن الدبلوماسية الاقتصادية الرقمية لا ينبغي أن تكون سباقًا تقنيًا بحتًا، بل رؤية إنسانية تعيد التوازن بين التقنية والقيم. فالتكنولوجيا إن لم تُسخّر لخدمة الإنسان، تتحول إلى وسيلة هيمنة جديدة. ومن هنا، فإن على الدول والمفكرين وصانعي القرار أن يعملوا على بناء وعي رقمي دبلوماسي يربط بين التنمية والعدالة، وبين الابتكار والمسؤولية الأخلاقية. فالقوة الحقيقية في هذا العصر لا تكمن في امتلاك الخوارزميات، بل في القدرة على توجيهها لخدمة الإنسان وتعزيز التعاون العالمي.
إن الدبلوماسية الاقتصادية الرقمية تمثل اليوم البوابة الكبرى لعصر السيادة الواعية، حيث لا تُقاس القوة بعدد السفارات أو الصفقات، بل بعدد المنصات التي تُحسن مخاطبة العالم بلغة الذكاء والابتكار. إنها دبلوماسية تُحوّل المصالح إلى شراكات، والمنافسة إلى تعاون، وتُعيد الاعتبار لقيمة الإنسان في قلب المعادلة التقنية. ومن يُدرك هذه الحقيقة مبكرًا، سيقود الغد لا بالسلطة، بل بالبصيرة الرقمية التي تجمع بين الذكاء والتوازن والإنسانية.