تحليل سياسي
بقلم: الأستاذ الدكتور هاشم الحمامي.
حين تسكت المدافع وتُطوى رايات الحرب، يبدأ صوت السياسة يعلو، لكن ليس كل تفاوضٍ يكون بين ندّين. أحياناً، لا تكون طاولة الحوار إلا ساحة أخرى يُكمل فيها المنتصر معركته، لا بالسلاح بل بالشروط.
هذا هو الحال اليوم بين الولايات المتحدة وإيران. فالمفاوضات الجارية ليست بحثاً عن حلول وسط، بل فرض لإرادة الأقوى على الطرف المنهك.
إيران التي خاضت معاركها عبر الوكلاء، وتوسعت في خرائط المنطقة بظلال الميليشيات والصواريخ، تجد نفسها الآن تتفاوض من موقع العجز، بعد أن خسر مشروعها الإقليمي أدواته الواحدة تلو الأخرى.
فما الذي حدث؟ ولماذا باتت طهران أمام خيارين أحلاهما مرّ؟ هذا ما يكشفه هذا المقال…
في عالم السياسة، لا صوت يعلو فوق صوت القوة، ولا منطق يتقدّم على منطق المنتصر. هذه هي الحقيقة الجليّة التي تفرض نفسها اليوم في المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.
فبعد سنوات من التمدد الإيراني عبر الأذرع والوكلاء في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وجولات من التصعيد والتحدي، ها هي طهران تجد نفسها الآن في زاوية ضيقة، تحاصرها الضغوط من كل اتجاه، وتدفعها نحو طاولة تفاوض غير متكافئة، حيث لا تملك من أوراق القوة إلا ذاكرة الأمس.
لقد خاضت إيران مغامرة جيوسياسية طويلة الأمد، وسعت إلى مدّ نفوذها عبر تشكيل وتغذية ميليشيات مسلحة موالية لها في محيطها العربي، على أمل رسم ملامح شرق أوسط جديد تدور عجلته حول مشروع “ولاية الفقيه”.
كانت البداية من العراق، حيث أسّست مليشيات الحشد الشعبي، مروراً بسوريا حيث دفعت بكل ثقلها لحماية نظام بشار الأسد، وصولاً إلى لبنان عبر حزب الله، واليمن من خلال دعم الحوثيين، وحتى غزة بدعمها لحركة حماس.
لكن هذه الاسراتيجية التوسعية وصلت اليوم إلى لحظة الحقيقة، بل إلى نقطة الانهيار.
حزب الله اللبناني، أحد أقوى أذرع إيران، تلقى ضربات موجعة ومتتالية أفقدته الكثير من قدراته العسكرية ومكانته الشعبية.
أما في سوريا، فقد كانت الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية القاصمة كفيلة بإنهاء نظام الأسد الذي ظل طويلاً يتكئ على الحماية الإيرانية، ليجد نفسه في النهاية يسقط بعد أن استُنزفت إيران في محاولة إنقاذه.
وفي اليمن، تتوالى الضربات المركّزة على معاقل الحوثيين، فيما تتراجع قدراتهم تباعاً، لتتحول من تهديد إقليمي إلى مشكلة أمنية داخلية.
أما في غزة، فقد كان المشهد أكثر وضوحاً؛ فالحرب الأخيرة على حماس كانت بمثابة كسر العظم، حيث فقدت الحركة معظم بنيتها العسكرية ومخزونها من الأسلحة والصواريخ.
وبينما تتهاوى الأذرع الخارجية لطهران، لم يتبق لها إلا ميليشيات الحشد الشيعي في العراق، والتي بدورها تعاني من التهميش والانقسام، بعد أن اضطرت الحكومة العراقية – تحت وطأة الضغط الأمريكي والتهديد الإسرائيلي – إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لتحجيمها وتحييدها.
في هذا السياق، تأتي المفاوضات الحالية، التي تصوَّرها بعض وسائل الإعلام الغربية والإقليمية على أنها “فرصة لتحقيق اختراق دبلوماسي”، إلا أن الحقيقة المرة التي تخشاها طهران وتعلمها جيداً هي أن خياراتها قد تقلّصت إلى اثنين لا ثالث لهما: القبول الكامل بالشروط الأمريكية، أو مواجهة سيناريو مدمر يتمثل في توجيه ضربات جوية مباشرة إلى عمق الأراضي الإيرانية، لا إلى وكلائها.
الشروط الأمريكية باتت معروفة: تفكيك البرنامج النووي الإيراني، كبح برنامج الصواريخ الباليستية، ووقف كامل للدعم المالي والعسكري للأذرع الإيرانية في المنطقة. هذه الشروط ليست موضع تفاوض، بل أصبحت إطاراً إجبارياً للحل، لأن من يملك السماء، ومن حسم المعركة في الميدان، هو وحده من يملي البنود.
قد تحاول طهران كسب الوقت، وقد توظف آلة الإعلام والدعاية، ولكن الحقيقة الصلبة على الأرض تؤكد أن التوازن قد اختلّ لصالح واشنطن وحلفائها. والمنطقة اليوم تتهيأ لما بعد إيران كقوة إقليمية مهيمنة، في ظل تراجع أدواتها وخسارتها لمراكز التأثير الحيوية.
المنتصر يفرض شروطه، والتاريخ لا يرحم الخاسرين.





























